منذ وقت ليس ببعيد اعترض المواطنون القادمون من جنوب الوطن -المساكين والفقراء امثالنا- على قطع طريق الساحل من قبل أهالي اقليم الخروب ضغطاً على سلطة استقالت فعلياً من مسؤولياتها قبل استقالتها الورقية منذ وقت قليل.. وهذا الأمر الذي عرفناه بالتواتر من خلال مشاهداتنا وممارسة حياتنا اليومية.. فقر مدقع، اقتصاد مشلول، فساد مستشر، نفايات منتشرة، بيئة موبوءة، صحة مريضة، ولائحة يضيق المكان والزمان على ذكرها..ولعل احدثها ما سأرويه لكم اليوم عن مشاهدات حية في وطن سلبوه الحياة خلال رحلة قمت بها من مدينة صيدا الى بيروت والتي لم تكن الا رحلة في الفراغ..انه شهر كانون الاول كما تعلمون اي انه فصل الشتاء ورحمة بالعباد شاء رب العباد العليم تاخير امطار الشتاء الى اليوم..فأمطرت.. ويا ويل شعب باءس في وطن مهجور من مطر الشتاء حين يثور.. الطريق مقفلة.. فلا طريق بحرية ولا فرعية يلجا اليها المواطنون كما كانوا يفعلون منذ وقت ليس ببعيد.. ولا بريق امل يلوح في أفق المكان مؤشراً الى فرج قريب..
الكل اقفل سياراته ونزل الى الطريق اما ليستكشف الأزمة فينكشف له فداحة الأمر حينما يرى عن بعد سيارات تغرق بالماء والمجارير حتى اذينها..وأما لقضاء حاجة أنعمت عليه الطبيعة بها .. أو لدفش الوقت المتوقف عند محرك السيارة..وأنا وبكل سكون أتواصل مع الجامعة حيث ينتظرني طلاب صفوف ثلاث في كلية الطب لاستكمال منهج في عام دراسي يبدو ان التعثر سمة حقيقية من سماته.. وحده المطعم القريب من مكان الأزمة كان سعيداً، فساعات الانتظار الخمسة دفعت العالقين في المكان الى تناول الترويقة والبعض العالق تناول أيضاً سناك أو اثنين..رب ضارة نافعة يا جماعة.. ورب أزمة تخنق البعض تنقذ ما لم يتمكن علماء الاقتصاد من انقاذه..
ولا أخفيكم ان بعض مشاهداتي اليوم كانت فعلاً موجعة.. اوجعني مشهد شاب عشريني يسير وحيداً بين السيارات المتوقفة ويصرخ بأعلى صوته ” ثورة.. ثورة” اوجعني صوته العابق أملاً في بلد فيه الظلم ظلمات ساله احدهم ” ثورة لوحدك” اجابه “نعم ثورة لوحدي”، فعلاً انها ثورة على إهمالهم الذي يأسرنا اليوم في سياراتنا، وجشعهم الذي افلس البلاد والعباد، ووجودهم الذي حوله الزمن الى لزوم ما لا يلزم..
اوجعني مشهد عشريني يركب على دراجته ويسير غاضباً بالقرب من العشريني الثاءر ويتمتم غاضباً “هلاء وقت ثورتك” يا رجل ان لم يكن الان وسط بحار الذل والعار والإهانة المتمثلة بتعطيل آلاف البشر دون هدف متى ستكون؟؟ …
واوجعني مشهد فتيات جامعيات لم يستطعن الوصول الى جامعاتهم يسرن غاضبات على اقدامهن وسط جموع تتساءل عن خشبة للخلاص من هذا العذاب المتفاقم لتسال إحداهن ” شوفولي في شي بنت وزير عم تعيش متل ما نحنا عايشين”..
اوجعني مشهد تلك المرأة الستينية التي تحاول ضاحكة قطع بركة فاضت بها الطريق وهي تسال شاباً ذهب ليساعدها في استكمال مهمتها عن الأموال التي صرفت لصيانة الطرقات “انشالله بيصرفوها على صحتهم وصيانة عقولهم”..
واوجعني جداً مشهد شباب بلدة الناعمة -عناصر بلدية الناعمة وشبابها المدنيين- الذين كانوا يحاولون جاهدين بكل جد ومحبة على تسهيل مرور المواطنين كل المواطنين من طرقات البلدة الفرعية بغياب تام ومستفذ ومستهجن لعناصر القوى الأمنية في يوم عصيب كهذا.. شباب الناعمة الذين قاموا بفتح العبارات المقفلة والمسدودة بايديهم لعل انهار المياه التي تجمعت قسراً تجد مصرفاً فيتمكن المواطنون المأسورين في السيارات من العبور..فكيف يمكن لهولاء الشباب المتطوعين بكل حب ان يكونوا قطاع طرق او زعران او قتلة..
واوجعني طلابي الذين لم ياخذوا درسهم والمرضى الذين لم أتمكن من رؤيتهم ومعاينتهم ..
واخر ما اوجعني وفي طريق العودة من مشوار الفراغ ذاك الشيخ المعمم الذي ضرب سيارتي من الخلف في خضم العجقة الخانقة فدون ان أكلف نفسي عناء النزول من وطني الذي اختصرته سيارتي تبسمت له وقلت له “سليمة” ومضيت دون تفكير..
انها الطبيعة التي ثارت اليوم فأقفلت الطريق بوجهنا كلنا يعني كلنا دون تمييز طاءفي او عرقي او مذهبي او حزبي، ودون احراق دواليب ودون حواجز حديدية ودون قطاع طرق.. انها الطبيعة التي بحبات مطر معدودات كشفت من جديد عمق المأساة، ورسخت في داخلي قناعة الحاجة الى ثورة فعلية على فساد موصوف أوصل الوطن الى حالة من الاهتراء ليس منها شفاء..