كتبت الدكتورة غنوة الدقدوقي…
عشرُ سنواتٍ ويزيد، مضت على لقائنا الأول في أحد المؤتمرات العلمية بعيداً عن أرض الوطن والتي كان لنا فيها حظ لقاءاتٍ ونقاشاتٍ وتبادل خبرات والكلام عن خيبات وأحلام…لفتني حينها ذاك الهدوء وتلك الطيبة وذاك الطموح المتوقد في واحدٍ من الزملاء أطباء الأطراف الذين وإن ابتعدوا عن قلب الوطن لا يغادرون أبداً قلب الذاكرة.. ومضت السنوات سريعاً لم نلتقِ فيها إلا قليلاً قليلاً ولكن بين حين وآخر كان التلاقي هاتفياً للتباحث في بعض الحالات والأحداث.. إلى أن التقينا مجدداً في انتخابات مجلس نقابة اطباء لبنان في العام ٢٠٢٣ وكان لك الحظ بالفوز وكان لي الحظ بلقاءٍ جديد..وأصبحتَ تجلسُ على بعد مقعدين من مقعدي.. الهدوء نفسه ورزانة صوت الذين لا صوت لهم هي هي .. والطمأنينة ذاتها وإن أصاب الشيب فروة الرأس وبعضاً من زوايا القلب تاركاً فيك بعضاً من قلقِ العمرِ العابرِ كلمح البصر..
قليلةٌ هي المرات التي التقينا فيها وان كثرت .. فلم يكن لأحاديثنا الجانبية الشخصية حيزٌ كبير في ظلِّ نقاش قضايانا الكبيرة كاطباء سواء كنا في قلب الوطن أو في أطرافه المترامية بقاعاً وجنوباً..
وفي الآنية الأخيرة، فترة مرضك القصيرة جداً، آلمتني الدموع في عينيك والتوتر المتصاعد في نبرةِ صوتك وكم كنتُ ألقي عليكَ باللومِ، لوم الطبيبِ الذي وقعَ في شركِ الوفاءِ لمريضه، لأني واقعاً لم أرَ مبرراً علمياً لكل ذاك القلق الذي يسكن كيانك ويعمل على اهتزازه.. وعندما قمتُ بآخر زياراتي لك قبل ساعات من سفري أخافتني نظرات عينيك التي كانت تبحث في كلماتي عن بعضٍ من الطمأنينة والهدوء… خطر ببالي حينها للحظةٍ أن أطلب من أحدهم التقاط صورة تجمعنا كجزءٍ من دعابةٍ مقصودة علها تنسيك بعضاً من ذاك القلق ..
لكني آثرت الصمت خوفاً من احساسٍ دفين بان تكون صورتنا الأخيرة فاسكت رغبتي ومضيت..
واليوم وبعد شهرٍ ويزيد عن ذاك الصراع بين قلقك واطمئنانا وجدتُ يا صديقي ناصر ذاك المبرر ..هو قلبُ المؤمنِ الذي يعطي دليلاً على أشياء ان تبدو لنا تسؤنا ..
ناصر برحيلك المفاجئ في غفلةٍ من زمنٍ عابقٍ بالتحدي انتصرتَ انتَ حقاً كنسمةِ صيفٍ تعبرُ عواصف الدهرِ وكعصفِ برقٍ يلمعُ في ليلة ربيع ..لكنك بهذا الرحيل ألحقت بنا الهزيمة الكبرى وتركتنا نتلمس ذكريات الحنين إلى شخصٍ وان غاب عنا جسداً سيبقى بيننا حاضراً لن يغيب .. فالرثاءُ حزنُ قصير الأجل اما الوفاء فهو التمثل بالغائبين حدّ التماهي (أحلام مستغانمي-بتصرف).. فوداعاً يا صديقي والى اللقاء ياطبيب الانسانية والفقراء ..