كتبت أسرار شبارو...
جريمتان صدمتا اللبنانيين قبل أيام، ضحيتاها كلاب أحرقت حيّة على أيدي قاصرَين في قضاء بعلبك، ما طرح علامات استفهام عن ظروف تنشئة الأطفال ومدى العنف المكبوت الذي قد ينفجر إجراماً في أي لحظة وبصور متنوعة.
وفي الرابع عشر من الشهر الحالي نشر الفتى "ه.ر" مقطع فيديو عبر خاصية الستوري على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لكلب تشتعل فيه النيران يركض داخل غرفة صغيرة، ولإخفاء صراخ الضحية من الألم والهلع، عمد ابن الـ15 عاماً إلى تشغيل موسيقى في الخلفية، ما دفع محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر إلى التواصل فوراً مع الأجهزة الأمنية التي أوقفت الفتى قبل أن تطلق سراحه بعد يومين، بحسب ما أكده خضر لموقع "الحرة".
وبعد أيام، صعق اللبنانيون بجريمة أكبر، هذه المرة جماعية، طالت كلبة و6 من جرائها، أضرم فتى يبلغ من العمر عشر سنوات النار فيها داخل غرفة صغيرة بجانب منزل، ما تسبب بمقتل خمسة منها، ومرة جديدة تحرك خضر متقدماً بشكوى أمام القضاء، فتم استدعاء الفتى ووالده بإشارة من المدعي العام البيئي في البقاع القاضي إياد البردان، حيث جرى التحقيق معهما بحضور مندوبة الأحداث.
ليست المرة الأولى التي تقع فيها مثل هذه الحوادث الإجرامية كما يؤكد خضر، "لكن الآن أصبح يتم التبليغ عنها من قبل الناشطين، وبدورنا نبلغ الجهات الرسمية، والمهم في مثل هذه الحالات التحرك الفوري، واللافت والإيجابي اهتمام اللبنانيين المتزايد بهذه القضايا، حيث يظهر ذلك من خلال تفاعلهم مع أي حادثة من هذا النوع وتعبيرهم عن استيائهم وغضبهم".
دق ناقوس الخطر
وازدادت في الآونة الأخيرة جرائم قتل الكلاب، بحسب الناشطة والمدافعة عن حقوق الحيوان، غنى نحفاوي، التي أشارت إلى وقوع جريمة ثالثة اتخذت من منطقة بشامون مسرحاً لها منذ أيام، حيث أقدم شخص راشد على إطلاق النار باتجاه مجموعة من الكلاب الشاردة.
ولفتت إلى أن "الإجرام بحق الحيوانات في لبنان تخطى كل الحدود التي يتخيلها عقل، من الحرق إلى استخدام اللانيت المحظور عالميا، فهذه المادة السامة التي تقتل الإنسان فيما لو تنشقها متوفرة في محلات بيع الأسمدة الزراعية من دون أن يفتح أي مسؤول تحقيقاً رسمياً بكيفية دخولها إلى البلاد".
حاول البعض كما تقول نحفاوي التخفيف مما ارتكبه ابن الـ15 سنة من خلال الإشارة إلى أن شقيقه قتل على حاجز للجيش اللبناني، وأن القضية لا تستحق كل هذا الاهتمام بما أن الضحية حيوان، ومن الأولى الإضاءة على قضايا اللبنانيين الذين يموتون جوعاً، لكن هذا الحديث غير مقبول، فالحيوان روح ينتمي إلى عائلة ولديه شعور بمعنى أنه لا يختلف عن الإنسان سوى أن الأخير ميّزه الله بالعقل".
هي جرائم وحشية كما تشدد رئيسة جمعية "نضال لأجل إنسان" ريما صليبا، قائلة لموقع "الحرة" "الأمر أخطر مما يظن البعض، فهو يشير إلى ما واجهه أو يواجهه القاصر من تعنيف أو من كونه شاهد لعنف، والخطورة تكمن فيما قد يقدم عليه في المستقبل".
من يرتكب هكذا جريمة لا بد من أنه سبق وأعطى إشارات عديدة عن نوع من السلوك الانحرافي، بحسب صليبا "لكن أهله لم يأخذوها بعين الاعتبار، إما عن جهل أو إهمال، فهم المسؤولون المباشرون عن صحة أطفالهم النفسية تليهم البيئة المحيطة به، والمجالس البلدية والاختيارية والجمعيات التي أخذت على عاتقها ملف حماية الأطفال، والتي يتوجب عليها القيام بحملات توعية وتنظيم نشاطات في مختلف المناطق تسمح لهؤلاء الصغار تفريغ طاقتهم السلبية، ولذلك سنطلق في يونيو المقبل حملة لتوعيتهم على حماية أنفسهم من التعرض للعنف أو مشاهداته".
ما خلف ستار الجرائم
تؤثر التربية المنزلية على سلوك الطفل وتشكل نمطه السلوكي، بما في ذلك بث روح العنف، بحسب الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية البروفيسورة، وديعة الأميوني، وتشرح في حديث لموقع "الحرة"، "إذا تعرض الطفل للعنف أو شهد حالات عنف في بيئته المنزلية، فقد يتعلم أن العنف هو وسيلة لحل المشكلات أو التعامل مع الآخرين. يمكن أن يؤدي هذا النمط التربوي إلى تكوين صورة سلبية عن العنف وتعزيز انتشاره في المجتمع. وإذا كان الطفل يشهد أو يتعرض للعنف في بيئته، فقد يصبح أكثر عرضة لتكرار هذا السلوك في المستقبل".
والعنف بمختلف أشكاله دليل انحراف وقلة إدراك ووعي، كما تقول أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية، الدكتورة ماري آنج نهرا، التي شرحت لموقع "الحرة"، أنه "في المبدأ العام الأشخاص المنحرفون قد يصابون باضطرابات العنف بفعل مسارهم الانحرافي، وذلك يعود لسببين أولهما نتيجة معاناتهم من مشاكل نفسية مرتبطة بالتربية التي تلقوها خلال صغرهم وبالتحديد علاقتهم مع السلطة الأبوية، ثانيهما معاناتهم من اضطرابات عقلية او نفسية مرتبطة بطباعهم منذ ولادتهم ومن أمراض عصبية رافقتهم خلال نشأتهم حتى سن المراهقة".
تجزم الدكتورة نهرا أن "الأطفال الذين يتعرضون للعنف سيمارسون الأمر ذاته على من هم أضعف منهم، وليس هناك أسهل من التسلط على حيوان لا يمكنه الدفاع عن نفسه ولا يجد من يحميه"، مشددة "من يؤذي عن قصد هو سادي، يتلذذ بتعذيب الآخر، هذا الاضطراب ممكن علاجه إذا كان المصاب به مازال صغيرا، كي لا يصبح مرضا في عمر المراهقة أو يتحول الولد إلى حدث منحرف، وشخصا مؤذ لمجتمعه عن سابق تصميم".
من جانبها تعرّف اختصاصية علم النفس هيفاء السيّد، السادية ضد الحيوانات، بأنها "سلوك يتلذذ فيه الشخص بممارسة القسوة وأشكال التعذيب كالركل والدهس وصولاً إلى قتل الحيوان وحرقه".
وعن أسباب التي تؤدي إلى هذا السلوك تشرح "قد تكون وراثية نتيجة جينات معينة تساعد على ظهور اضطرابات في الشخصية تمتد إلى عدة أجيال، أو قد تتعلق بالمشاكل والعنف الأسري بين الوالدين أو الأخوة، كما قد تكون نتيجة سوء المعاملة التي يتعرض لها الطفل من قبل أفراد عائلته كالعقاب والتهديد والتنمر عليه من قبلهم أو من قبل أفراد محيطه، أو معاناته من ضعف في شخصيته، ما يسبب لديه مشاكل نفسية تصل إلى الاكتئاب".
ولا تستبعد هيفاء تأثر الطفل بمشاهد تعنيف أشخاص للحيوانات سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو البرامج التلفزيونية وحتى الألعاب الإلكترونية التي تحفز على التعامل بعنف، كل ذلك يدفعه إلى "إفراغ غضبه محاولاً إظهار قوته على من هم أضعف منه كالحيوانات".
بين التأهيل والمحاسبة
توقيف الأولاد وتشديد العقوبة للذين يرتكبون هكذا جريمة ليسا كافيين ولن يجديا نفعاً بحسب صليبا "إذ لا بد من معالجتهم وتأهيلهم نفسياً لكي لا يكررون جريمتهم ومن هنا التشديد على أهمية برامج التأهيل النفسي خلال فترة التوقيف وتنفيذ الحكم"، في حين تعتبر نحفاوي أن التأهيل ضروري لهؤلاء، لكن "عدم المحاسبة هو السبب الرئيسي لانتشار مشاهد العنف هذه، إذ لا تتجاوز العقوبة الغرامة المالية وتوقيع تعهد بعدم تكرار الجريمة".
وحمّلت نحفاوي مسؤولية ما حصل إلى "كل مدعي عام وقاض لم يحكم بالعدل حين كان ينظر بهذه القضايا لاسيما حينما يكون المجرم راشداً" كما حمّلت المسؤولية إلى "القضاء المتخاذل الذي لا يحرك ساكنا وإلى كل مسؤول في بلدية لم ينفذ المادة 12 من قانون حماية ورعاية الحيوان رقم 47/2017، لمعالجة واقع الكلاب الشاردة، من خلال خصي الذكور وتعقيم الإناث منها، وبالتالي تسبب في تكاثرها، حتى وصل عددها إلى نحو ستين ألفاً".
من جانبه يشدد خضر على ضرورة تحديث القوانين "لكي ترتقي العقوبة إلى مستوى الجريمة خاصة عندما يرتكبها شخص راشد"، وبما ان العقوبة القانونية بجريمة قتل الحيوانات غير كافية، اقترح على القضاء إلزام من أحرقا الجراء بالخضوع لعلاج نفسي، وإلزامهما بالعمل خلال العطلة الصيفية بمأوى الكلاب الشاردة في بعلبك تحت إشراف صارم من قبل المتطوعين القيمين على المشروع، بهدف إعادة تأهيلهم.
ولفت إلى أنه "خلال شهرين كحد أقصى سيتم افتتاح مأوى للكلاب في بعلبك على أرض عائدة للبلدية، وقد بدأنا بدورة تدريبية للمتطوعين الذين سيكونون على تماس مع الكلاب وفي المرحلة القادمة سنستكمل تجهيزات المأوى التي تكفّل ناشط لبناني في مجال الرفق بالحيوان مقيم في الخارج بها، وبالتالي ستحل المشكلة فلا تتعرض الكلاب للقتل وفي ذات الوقت لا تزعج المواطنين وتعرضهم للخطر".
ويحظر قانون حماية ورعاية الحيوان في مادته الرابعة، القيام بأي عمل من شأنه التسبب للحيوانات بأية ضائقة، أو الم أو معاناة أو تعريضها للخطر أو التعذيب، ونص في المادة 26 على معاقبة كل من يخالف أحكام أي من مواد هذا القانون، بالغرامة من ثلاثة أضعاف إلى عشرة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور.
كما "يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر ولغاية سنتين، وبالغرامة من عشرين الى خمسين مليون ليرة لبنانية، إذا كان الجرم واقعا على حيوان مدرج في أي ملحق من ملاحق اتفاقية سايتس".
خطوات مطلوبة
لا شك أن أطفال لبنان كانوا الحلقة الأضعف للأزمة الاقتصادية وأكثر من دفعوا ثمنها، كما ترى صليبا "فحرمانهم من أبسط حاجياتهم من طعام ولباس وألعاب ونشاطات ترفيهية وربما من مقاعد الدراسة، كل ذلك ولّد لديهم كبتاً، في وقت أدى تلهي الأهل بتأمين لقمة عيش أولادهم إلى اهمال مراقبتهم لمعرفة ما يتعرضون له من مشاهد عنف عبر الانترنت والألعاب الالكترونية وغيره"، وتشدد على ضرورة اصطحاب من يحتاجون لعلاج نفسي الى جمعيات تقدم هذه الخدمة، وهي "منتشرة في مختلف المناطق".
وطالبت صليبا بتعديل برنامج كتاب التربية الوطنية، لتضمينه دروساً حول مفهوم الإنسانية وأهمية التعاطف مع الآخر أياً يكن إنساناً أو حيواناً، وكذلك "على وزارة التربية القيام بدورها في مجال توعية الأطفال"، محذرة من أن القادم مرعب "إذا لم يتخذ جميع المعنيين الخطوات المطلوبة منهم بأقصى سرعة".
أما الدكتورة نهرا فتعتبر ان "ما نشهده من أنواع عنف هو نتيجة عدم سيطرة الدولة على كافة المناطق اللبنانية وعدم احترام المواطنين للقوانين المرعية، اذ من المفترض أن يكون الحيوان محمياً في الطبيعة كما يفترض أن يكون الإنسان محمياً في دولته، ولوضع حد لهذه المشاهدة لا بد من التوعية على صعيد المدارس وذلك على مستويين: مستوى احترام الطبيعة والحيوان، ومستوى تربوي بمقاربة تربوية مع الأهل لتوجيه أبنائهم بطريقة مستقيمة ومتزنة عقلياً".
ومن الأهمية بحسب البروفيسورة الأميوني "توفير بيئة تربوية صحية وخالية من العنف في المنزل. ونؤكد على بعض الحلول التي يمكن أن تساهم في ذلك، مثل التوعية والتثقيف وتوفير بيئة آمنة وخالية من العنف. يمكن توفير الموارد والمعلومات من قبل الآباء والأمهات التي تساعد في تعزيز العلاقات الإيجابية والحوار البناء، اضافة الى تعليم الطفل المهارات الاجتماعية بما في ذلك حل المشكلات والتعبير عن الانفعالات بطرق صحية وبنّاءة، وتعزيز التواصل الفعّال وتعليم استخدام الكلمات للتعبير عن الغضب والاحتجاج بدلاً من العنف".
وتضيف "يمكن للأهل ان يقدموا أنفسهم كنموذج إيجابي بعيد عن مظاهر العنف الجسدي واللفظي والتعامل مع الصعوبات بشكل هادئ وبناء، بل تقديم الدعم النفسي والعلاج إذا كان الطفل قد تعرض للعنف أو يشهد حالات عنف. ويمكن الاستعانة هنا بمتخصصين في الصحة النفسية لتقديم الدعم اللازم للطفل ومساعدته في التعامل مع تأثيرات العنف. إن تقديم بيئة آمنة ومُحبة للأطفال وتعزيز التواصل الإيجابي والحوار البنّاء يمكن أن يسهم في الحد من العنف ونشر ثقافة السلام والاحترام في المجتمع".
كذلك تؤكد هيفاء أن "تربية الأهل تلعب دوراً مهماً في تشكيل شخصية الطفل خاصة في سنواته الخمس الأولى، لذلك من الضروري تدريب الوالدين على كيفية تنشئة أبنائهم وتطوير التواصل معهم كونهما القدوة والنموذج لهم في التعامل مع الغير، وعند ملاحظة أي سلوك انحرافي يجب عرض الطفل بشكل فوري على معالج نفسي، لأن العلاج المبكر قد يصلح شخصيته ويقيه من ارتكاب الأفعال الإجرامية مستقبلاً، فمن تسوّل له نفسه إزهاق روح حيوان لا يستبعد عنه ازهاق روح انسان وبالتالي تهديد امن واستقرار المجتمع".