كتب حسين طليس...
"بدأت القصة حين استفقنا جميعا صباح يوم وقوع الزلزال (السادس من فبراير) مصدومين.. وبعدما وصلتنا مشاهد ما جرى في سوريا وتركيا، أرسل لي صديقي رسالة قال فيها: 'أحب أن نفعل شيئا في هذا الخصوص، وألا نقف مكتوفي الأيدي'، سألني 'ما رأيك أن نذهب إلى سوريا؟' لم أفكر بالأمر مرتين، قلت له: 'بالتأكيد أستطيع الذهاب، أنا جاهزة'".
هكذا بدأت مبادرة "سلام لأرضي" مع الطباخة اللبنانية، عليا هزيم، التي كانت بين طلائع المتطوعين من لبنان إلى سوريا لتقديم العون والمساعدة للمتضررين من الزلازل التي ضربت الشمال السوري والمناطق الساحلية.
تروي عليا لموقع "الحرة" كيف بدأ التحضير منذ اليوم الأول للزلزال، "جمعنا ما بوسعنا من لوجستيات وحاجات للانطلاق إلى سوريا، كان إلى جانب صديقي ميشال فريق عمل من مبادرة اسمها "أرضكن"، أنشأ منصة أونلاين لجمع التبرعات، ويوم الجمعة كنا في سوريا.
المبادرة التي تقوم على إنشاء مطبخ ميداني متنقل، يقدم الأطعمة والوجبات الساخنة للمتضررين والمشردين في سوريا نتيجة الزلزال، ترفدها من لبنان حملة جمع التبرعات، حيث تؤمّن اللوجستيات من لبنان لمتابعة العمل في سوريا.
وبينما يعمل ميشال بين الحدود لنقل الحاجيات والتبرعات، تتابع عليا عمل المطبخ الميداني الذي كان قد انطلق بعمله منذ اليوم الأول للزلزال في سوريا، قبل وصول المتطوعين اللبنانيين.
تعرفت عليا إلى صاحب المبادرة، وقررت دعمه والعمل معه كون المشروع قائما بالفعل، بدلا من العمل على مشروع جديد من الصفر، وفق ما تؤكد، "وعليه جمعنا فريق عمل تطوعي من شباب سوريين ليساعدوا في عملية الطبخ والتوزيع".
من انفجار بيروت إلى دمار اللاذقية
مبادرة المطبخ الميداني، كانت عليا قد جربتها في بيروت بعد انفجار مرفأ المدينة، في عام 2020، وتقول: "نزلنا حينها إلى الأرض وبدأنا تقديم المساعدة منذ اليوم الأول. كان لدي في حينها مطبخ طعام نباتي، وعند وقوع الكارثة في بيروت، قررت في يوم واحد أن أبدأ بالعمل على الأرض. بمبلغ مالي بسيط اشتريت الخضروات، وبكوننا كنا في شهر أغسطس، كانت قد وصلني بعض المحاصيل من أرضنا الزراعية في عكار، فجمعت كل ما لدي وبدأت بالطبخ وقدمت في اليوم الأول نحو 150 وجبة أرسلتها إلى فرق الإنقاذ الموجودين في وسط بيروت. واستمر عملنا كمطبخ ميداني لنحو شهر بعد الانفجار".
وتتابع "لذا حين وقعت الكارثة في سوريا، شعرت أنني أعلم ما سأفعله هناك وما سيحتاجه الناس، وحين وصلنا إلى سوريا، كان الوضع فوضويا بشكل كبير، يشبه إلى حد بعيد ما حصل في بيروت بعد الانفجار، لكننا كنا اختبرنا نظام العمل الذي سنعتمده والظروف التي سنعمل فيها، ومحضرين نفسيا لهذا الواقع".
حتى الوضع النفسي للناس، كان يشبه ما عاينته عليا في بيروت وفق ما تروي، "حين جئت إلى سوريا وجدت أن الحالة ذاتها يعيشها كثير من المتطوعين معنا، كنت أعلم ما يمرون به وأشعر بهم، وأصعب ما في الأمر أنهم، وكما حصل معنا في لبنان، لا يعلمون متى سيتوقفون في ظل هذا الوضع الكارثي الذي ما عادت تنتهي فصوله، وبالتالي كان عليّ تقديم الدعم النفسي أيضا للفريق، وبتّ أعتبر نفسي هنا داعمة نفسية قبل أن أكون طباخة".
وتضيف "هناك شيء أشعر به دائما، منذ وصولي إلى سوريا استطعت أن أرى أنفسنا كلبنانيين في الوضع الذي يعيشه السوريون، وتعمَّق إيماني بعدم وجود فروقات بين المجتمعين في البلدين المتجاورين، لم أجد أي فارق، قصة واحدة، تجربة واحدة من مختلف النواحي".
في اليوم الأول أعد المطبخ الميداني 750 وجبة طعام، وزعت في مدينة جبلة الساحلية قرب اللاذقية، والتي كان قد طالها ضرر كبير نتيجة الزلزال، وتدمرت فيها آلاف الوحدات السكنية تاركة أهلها إما ضحايا تحت الأنقاض أو مشردين في الشوارع.
ومن جبلة، انتقل المطبخ إلى اللاذقية حيث بات يمنح ما بين 600 إلى 1000 وجبة في اليوم، وذلك بحسب التبرعات وعدد المتطوعين، وقدرة الفريق على الطبخ بالمواد الأولية المتوفرة، كما بات المطبخ يغطي ملاجئ ومراكز إيواء للمدنيين المشردين من منازلهم المتصدعة، فضلا عن المنازل التي احتضنت عددا كبيرا من العائلات.
المطبخ الموجود حاليا في اللاذقية، والذي سيراوح مكانه لأسبوعين، ينتقل في كل مرة كي يغطي منطقة معينة من المدينة، وبحسب عليا سوف يجول أياما معينة على مناطق أخرى في الريف خارج المدينة.
"وجبة دافئة".. أقل ما يمكن
وفي ظل تعاظم معاناة السوريين بعد الزلزال، مع تأمين المسكن والملبس والتدفئة والمواد الطبية والإغاثية، جعل من فكرة تأمين الطعام المطبوخ أولوية متأخرة في الأذهان، خاصة وأن الناس باتوا يكافحون لمجرد النجاة. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى عليا.
"أول ما فكرنا به أن هناك مشردين من منازلهم ونازحين بسبب الحرب فقدوا ملاجئهم، وباتت المنازل الصالحة للسكن في المدينة تضم نحو 4 أو 5 عائلات بالحد الأدنى، انطلاقا من ذلك وفي ظل هذا الواقع، هل سيكون للناس قدرة على طبخ ما تأكله؟ لنبدأ من الغاز مثلا، هل باستطاعتهم تأمين ما يلزمهم من قوارير غاز لطهي طعام 40 أو 50 شخصاً وفي ظل ارتفاع أسعار الغاز؟".
وتضيف "كما أن نسبة كبيرة من العائلات تشتت أو فقدت بالزلزال أفرادا منها وتعيش فاجعة الخسارة، وأحيانا لا يكون من بينهم من يجيد الطبخ أو قادرا على تأمينه لأعداد كبيرة، وإضافة إلى كل ذلك، الناس في حالة حزن على ما خسرته، آخر ما قد يفكرون به هو الطبخ".
تلفت الطباخة اللبنانية أيضا إلى أن مراكز الإيواء وضعها أصعب، حيث تضم مئات الأشخاص بينهم نسبة كبيرة من الأطفال وكبار السن والعجزة ممن ليس لديهم مكان يذهبون إليه، وهي في الغالب أبنية مدارس ومراكز لا تضم أماكن مخصصة للطبخ، وبالتالي يعتمدون على مبادرات من هذا النوع لتأمين الطعام لهم من جمعيات وجهات داعمة، بدورها لا تتمكن بصورة مستمرة من تأمين الوجبات اليومية بالتوقيت اللازم وبالوتيرة التي يحتاجها الناس، وهذا أبسط ما يستحقونه وأقل ما يمكن تأمينه لهم".
"هل نصنع فرقا؟"
منذ أن وصلت إلى سوريا، تسأل عليا نفسها هذا السؤال يوميا، "هل نصنع فرقا؟ هل نترك أثرا فيما نقوم به؟ ولا نجد دائما جوابا شافيا لهذا السؤال، ولكن نشعر من الوضع القائم في سوريا، أن ما نفعله مطلوب بالفعل، ويسد حاجة نسبة من الناس، حين نرى أشخاصا مشردين في شوارع المدينة ليس لديهم مكان يذهبون إليه، فينامون في حدائق عامة، أشعر أن وجبة ساخنة لهؤلاء ستشكل فرقا بالنسبة لهم، ولو آنيا".
"حين أسمع من سيدة مسنة أن الناس في مراكز الإيواء باتوا يعرفوننا بالاسم، وينتظرون وصولنا بوجباتنا لأنها تعجبهم ويحبون مذاقها، أو حين أسمع طفلا يصيح عند وصولنا 'وصلوا وصلوا' أشعر أن ما أقوم به يترك أثراً على القلوب والبطون"، بحسب عليا.
أما الوجبات التي يقدمها المطبخ فهي وفق ما تقول عليا "ما نقدمه عادة في منازلنا، فالمطبخ واحد تقريبا بين لبنان وسوريا، وخصوصا بين عكار واللاذقية، وبالتالي لم يكن غريبا عليّ ما أعددته من أكلات. وأكثر الوجبات التي تلقى قبولا ويحبها الناس هنا البرغل بالحمص، وشوربة العدس والخضار، ونحن ركزنا أيضا على الشوربات الدافئة لكون الكارثة وقعت في الشتاء وفي ظل درجات حرارة منخفضة جدا هنا، كذلك أحبت الناس طبخة القمحية، التي يطلق عليها في لبنان اسم الهريسة، وهو القمح المطبوخ مع الدجاج، ومسقعة الباذنجان، إضافة إلى ذلك نحاول بقدر الإمكان تحضير وجبات تلائم الأطفال كالساندويشات والبطاطا وغيرها، ولكن في النهاية محكومين بحجم ونوع التبرعات التي تصلنا".
وأبرز ما تحرص عليه عليا خلال إعدادها للطعام هي المعايير الصحية، وفق ما تؤكد، إن كان من ناحية النظافة وغسل الطعام بمياه الشرب أو في تنويع الطعام بين حبوب ولحوم وخضار وأجبان وألبان.
مشاهد لا تنسى
تنقل عليا مشاهداتها على مدى الأسابيع الماضية التي أمضتها في سوريا، قصص لا تنتهي من الدمار والمعاناة والتشرد، وسط حالة حزن وحداد عام لا يوفر أحدا، "الناس هنا ما عادوا قادرين على التحمل، بعد الزلزال الثاني كانت هناك حالة انهيار جماعية، الناس اندفعت إلى الشوارع بأعداد أكبر، وقرروا البقاء لنحو أسبوع، بانتظار هدوء النشاطات الزلزالية، من شدة الخوف والتعب النفسي".
ورغم خروج 70 في المئة من الناس من الشوارع الآن، بحسب عليا، لا يزال عدد كبير من المشردين يفترشون الحدائق العامة والشوارع والمراكز التجارية، فيما يسكن البعض الآخر تحت شوادر نصبوها على الطرقات وفي خيم جاهزة، "وهناك عائلات تسكن في محال تجارية وكراجات مساء بعد إغلاقها من قبل أصحابها، ولا يزال عدد من السكان ينامون في سياراتهم على جوانب الطرقات".
الناس حتى الآن لم تتجاوز هول الصدمة، بحسب عليا، "لاسيما وأنهم كانوا أصلا ضحايا حرب ممتدة على مدى 12 عاما، وبين ليلة وضحاها سلبهم الزلزال ما تبقى لهم من مصادر أمان كمنازلهم وأعمالهم وأحبائهم".
وتختم المتطوعة اللبنانية بأول مشهد علق في ذهنها ولم يغادره منذ ذلك الحين، "كانت جوارب جديدة في كيسها لم تفتح بعد، ظاهرة من بين أنقاض مبنى دمره الزلزال في مدينة جبلة، يحاولون البحث بين أنقاضه عن ناجين، فكرت حينها بأن أحدا من الضحايا كان قد اشتراه جديدا ولم يلبسه بعد. بعد مدة علمت أن من هذا المبنى لم يخرج أحد على قيد الحياة، هذه التفاصيل الصغيرة تترك أثرا كبيرا، هناك طفل أو مراهق لم تسمح له الكارثة أن يلبس جواربه الجديدة، وكان يمكن أن أكون أنا، أو أي شخص أعرفه مكانه".