كتبت زيزي اسطفان في “نداء الوطن”:
بعد عقود من الانفصال عن الأرض وتراجع الزراعة كخيار مهني في لبنان، يعود جيل الشباب اليوم ليكتشف هذا القطاع لكن بأساليب عصرية. فبدلًا من الزراعة التقليدية التي ورثها الأجداد، يتطلع هؤلاء نحو بعد المستقبل ويتجهون إلى التقنيات الحديثة لمواجهة التحديات الكثيرة التي يفرضها واقع لبنان من جهة والتغير المناخي الذي يرخي بظلاله الثقيلة على البيئة والزراعة من جهة أخرى. شباب يعيدون وصل ما انقطع بين الإنسان اللبناني وأرضه، يستثمرون في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ليحولوا الزراعة إلى طاقة أمل نحو المستقبل.
وعي بيئي وزراعي مستجد يدفع بالشباب نحو المجال الزراعي بعد أن اتسعت دائرته وبات محورًا لاختصاصات عدة ونشاطات مهنية واقتصادية وأكاديمية كثيرة تدور في فلكه. وقد بيّنت الأحداث التي عصفت بلبنان أن الزراعة قطاع لا يموت ولا يتوقف وهو الوحيد الذي لا يخشى أن يحل الذكاء الاصطناعي محله، لا بل إنه من أكثر المستفيدين من التطور التكنولوجي وهو ركيزة من ركائز الاقتصاد المستدام.
عودة الشباب إلى الزراعة
كان لافتًا حضور الشباب الكثيف في معرض Agri Lebanon الزراعي الذي شهده لبنان في أواسط شهر أيلول تحت رعاية وزارة الزراعة اللبنانية، حضور تخطى كل التوقعات وأفكار جديدة طرحها الشباب بثقة وحماس وقدموا ابتكارات قادرة على تغيير الواقع الزراعي في لبنان ودفعه خطوات نحو الأمام. في هذا الإطار يشرح جورجيو كلاس، وهو دكتور متخصص في الزراعة في الجامعة اللبنانية ومدير مشروع المعرض، أن الشباب اللبناني منخرط بقوة في التجديد والابتكار في المجال الزراعي والبيئي عبر استخدام التقنيات الجديدة والذكاء الاصطناعي: من أنظمة الري الذكية، إلى استخدام المسيرات لمكافحة الحشرات في المناطق التي لا يصلها الإنسان، ومراقبة التربة والزرع، إلى استنساخ الأشجار والنباتات الجيدة لتحسين جودة الإنتاج والاستفادة منه على الصعيد التجاري، إلى استخدام الطاقة الشمسية لضخ المياه من الآبار وتنظيم عمليات الري، إلى استخدام عمليات المراقبة عن بعد عبر الشاشة لكل مراحل العملية الزراعية وحتى الاستشعار عن بعد لاستباق الحرائق والحد منها… أمثلة كثيرة تشير إلى دور الشباب في مستقبل الزراعة.
التحديات التي يواجهها العالم ككل ولبنان بشكل خاص، تجعل دور الشباب محوريًا في تأمين الأمن الغذائي للحاضر والمستقبل والحفاظ على البيئة. فالتغيير المناخي يفرض تحديات كبيرة، ويجعل من الضرورة بمكان البحث عن مزروعات قادرة على تحمل الجفاف والحرارة العالية، وعلى التأقلم مع البيئة الجديدة التي يفرضها هذا التغير. وهنا، يأتي دور الشباب كون المزارعين التقليديين يجدون صعوبة في التعامل مع هذا الواقع الجديد والتخلي عن طرقهم التقليدية ومزروعاتهم المعتادة.
من جهة أخرى، يفرض الواقع المائي في لبنان ضرورة البحث عن أساليب جديدة وذكية في الري خاصة أن 60 % من المياه تذهب إلى الزراعة. ومع أزمة السدود والجفاف وأزمة الكهرباء والطاقة، لا بد من الاستعانة بالتكنولوجيا للبحث عن وسائل توفر استهلاك المياه. كذلك، تفرض الأزمة الاقتصادية السعي وراء زراعات غير تقليدية قادرة على إعطاء مردود عالٍ، وإن تطلب الأمر استثمارات كبرى بدل الاكتفاء بالمزروعات التقليدية والاستثمارات الصغرى التي باتت محدودة ولا تعطي دفعًا حقيقيًا للاقتصاد.
يؤكد كلاس أن القطاع الزراعي عاد ليأخذ موقعه المستحق في الاقتصاد اللبناني، وصارت الجامعات والمعاهد اللبنانية مهيأة لمواكبة القطاع الزراعي عبر ما تقدمه من اختصاصات غذائية – زراعية متعددة. ومن جهتهم، بات الشباب حتى في المدن مهتمين بالزراعة بعد أن أدركوا أهمية هذا القطاع وارتباطه الوثيق بكل نواحي الحياة، وفهموا أنهم قادرون على تقديم الكثير له عبر التقنيات الحديثة.
نماذج شبابية واعدة
في جولة على بعض الشباب الذين انخرطوا في العمل الزراعي من أبوابه المختلفة، التقت “نداء الوطن” إسكندر عماد وهو شاب لم يتخط السابعة والعشرين من عمره، أنشأ في دير الحرف مشروع “غرسة خير” الذي يسعى للحفاظ على الإرث التقليدي للزراعة اللبنانية والعمل على إكثاره والحفاظ عليه. ويرتكز المشروع على نقل أساليب الزراعة القديمة إلى الأجيال الجديدة وتمكين الأسر التي تملك قطعة أرض صغيرة من زراعتها والحصول على إنتاج عالي الجودة يلبي احتياجات سلتها الغذائية. لم يختص عماد بالزراعة بل بالإدارة العامة والتسويق، وقد أدرك من خلال اختصاصه هذا، حاجة المجتمع اللبناني للحفاظ على زراعاته التقليدية مع طرحها بأساليب جديدة . ووجد عبر أبحاثه أن 90 % من البذور التي تزرع في لبنان مستوردة من الخارج ومعظمها بذور هجينة، ما دفعه إلى التساؤل أين البذور اللبنانية؟ لماذا لا نعود إلى عملية تأصيل للبذور والحفاظ على أصلها الجيني، بحيث تكون متأقلمة مع البيئة التي تعيش فيها، وتحافظ على البيئة في الوقت نفسه. من هنا، بدأ سعيه لإنشاء ما يشبه بنك البذور الذي يعتمد على البذرة اللبنانية الصرف التي عرفها أجدادنا رغم صعوبة الحفاظ على الأصل الجيني بعدما تراجعت هذه البذور إلى نسبة تعادل 40 % فقط مما يزرع حاليًا في لبنان .
هذه العودة إلى الأصل الجيني للمزروعات اللبنانية لاختيار بذور الخضار كالبندورة والمقتي والكوسا والخيار والباذنجان، تعيد إلى لبنان نكهة أيام زمان، كما تولّد نبتات قادرة على مقاومة الآفات والتأقلم مع البيئة التي تعيش فيها، وقادرة على الصمود دون الحاجة إلى الري وهو ما يعرف بالزراعة البعل وخالية من المواد الكيميائية. وتجعل هذه المواصفات كلفة الزراعة أقل، فيما المردود أكبر كونها مطلوبة في السوق وكون المستهلكين يدفعون أسعارًا أعلى للحصول على هذا النوع من المنتوجات الزراعية. ويستهدف بنك البذور المزارعين الصغار والأسر اللبنانية المهتمة بالزراعة، وهما الفئتان اللتان تسعيان للحصول على طريقة إنتاج مختلفة تميزهم عن المزارعين الكبار، وتعطي إنتاجهم “البلدي” قيمة مضافة، ويمكنهم تصريفه بسهولة كون المنافسة غير موجودة .
يحلم عماد بأن يتحول بنك البذور مع العام 2027 إلى بنك يضم كل أنواع البذور اللبنانية من خضار وثمار وحتى أعشاب، وأن يساهم هذا البنك في الحفاظ على الأمن الغذائي للبنان، كون البذور الأصيلة وحدها ابنة البيئة والتراب تستطيع مقاومة التدهور البيئي، فيما البذور المستوردة تعاني ولا تعطي الإنتاج المطلوب .
من النفايات إلى السماد
حنان اسماعيل صبية حائزة على شهادة دراسات عليا في إدارة الأعمال، فيما شقيقتها وشريكتها زينب مهندسة كهرباء، لكن العائلة تعمل في مجال الزراعة في منطقة بريتال. وشكّلت جائحة كوفيد والأزمة الاقتصادية التي ترافقت معها مرحلة مفصلية بالنسبة إلى الصبيتين اللتين شهدتا على تراكم النفايات في القرى والمناطق من جهة، وارتفاع أسعار الأسمدة التي يستعملها المزارعون. ففكرتا بإقامة صلة بين الاثنين. وشكّلت في المنطقة النفايات العضوية المشكلة الكبرى حتى تحويلها إلى كومبوست، لم يكن يفيد المزارع بشكل كبير لأنه بحاجة إلى سماد من نوع أفضل فيما السمادات الكيماوية التي يستخدمها تشكل ضررًا للبيئة والمزروعات والتربة والمياه الجوفية كما على صحة الإنسان. ونشأت فكرتهما بتحويل النفايات العضوية إلى سماد عضوي سائل من تلك الحاجة المزدوجة. وكان التحدي كيفية التعامل مع النفايات العضوية وتصنيعها للحصول على منتج يكون بنفس فعالية السماد الكيماوي ويسد تلك الفجوة التي يعاني منها المزارع .
من خلال تقنية بسيطة تعتمد على الفرز من المصدر، عبر سلة مميزة تعرف باسم “الهضوم” توضع فيها بقايا الأكل، ويتم نشرها أمام البيوت والمخيمات، وجمعها بين الفترة والأخرى، استطاعت الشابتان الحصول على المواد الأولية لصناعتهما، كما وفرتا على البلديات كلفة جمع النفايات التي تراجعت كميتها حتى نسبة 90 %. 360 سلة تتسع كل منها لثمانين كيلوغرامًا من بقايا الطعام تم توزيعها ليتم من ثم نقلها إلى مصنع صغير يعمل بالطاقة الشمسية ومعالجتها عبر 12 مرحلة لاستخراج المغذيات والهورمونات والفيتامينات وكل المواد المفيدة للمزروعات. وبعد محاولات متكررة، استطاعت الصبيتان الوصول إلى “سمادي” وهو سماد عضوي قامتا بتوزيعه على المزارعين الذين اكتشفوا أن استعماله يحقق خفضًا في كلفة التسميد تصل إلى 50 % ويخفف من نسبة استهلاك الأدوية وحتى المياه بنسبة 20 % ويريح التربة ويحقق زراعة مستدامة.
الطاقة المتجددة في الري
تجربة شبابية ثالثة دخلت عالم الزراعة من باب الطاقة الشمسية المتجددة، هي تجربة دافيد الشباب. فقد وجد الأخير من خلال المؤسسة الاجتماعية التي يديرها والتي تعمل في مجال ترشيد الطاقة أنه قادر على مساعدة المزارعين ضمن أهداف التنمية الاجتماعية والبيئية التي تعتمدها المؤسسة. وبنيت الفكرة على مساعدة هؤلاء في استخدام الطاقة الشمسية من أجل ضخ المياه من الآبار، وري الأراضي المزروعة وتوفير مصدر بديل للطاقة إلى جانب المولدات أو الكهرباء الشرعية، ما يعني خفض الكلفة وتأمين الطاقة حتى في أصعب الأوقات. وتقوم الشركة بتركيب الألواح الذكية المبرمجة لتستطيع التحكم بإنتاج الطاقة كما باستهلاكها، ما يجعل المزارع قادرًا على استخدام الطاقة البديلة والتخفيف إلى أقصى درجة من استخدام الطاقة التقليدية المكلفة، مع تأمين التدريب على تشغيل النظام وأنظمة التحكم عن بعد وتجميع الداتا لمعرفة كمية الاستهلاك وتكاليف الصيانة وغيرها. و بالتالي، يصبح المزارع قادراً على التحكم بتكاليف الري وخفضها حتى 60 إلى 70 %. ويقول دافيد الشباب أن كل مزارع قادر على الاستثمار بالطاقة الشمسية ولو بشكل بسيط بداية، لكنه حين يدرك أهمية الحل الذي تؤمنه له والكلفة التي توفره عليه، لا بد سيسعى لتكبير استثماره. واليوم، بات معظم المزارعين لا سيما في البقاع مقتنعين بأهمية التكنولوجيا والطاقة المتجددة في عملهم ومردودها الكبير بالنسبة إليهم مع الوقت.
في غياب الدعم الرسمي، تبقى هذه المشاريع معتمدة على مساعدة الجهات المانحة من مؤسسات عالمية ومنظمات غير حكومية محلية وأجنبية وحتى سفارات أوروبية لتقديم الدعم المالي والعملي لها. وباتت مؤسسات لايف، دورسوس، بيريتيك وأغراتيك نماذج آمنت بالزراعة الحديثة ودور الشباب الواعد فيها.