كتب وليد شقير ….
يشكّل العراق كما جرت العادة في العقدين المنصرمين الساحة الرئيسة للمساومات بين إيران وأميركا، على الصعيد الإقليمي. في هذا المجال تتقدّم تلك الساحة على ساحة لبنان في تحقيق التسويات. هناك تعقد الصفقات بين “الشيطان الأكبر” الأميركي، حسب التعريف الإيراني، وبين “محور الشرّ”، وفق التوصيف الأميركي لنظام الملالي.
قد تنعكس التسويات على لبنان وفق الظروف، لكنّ الأمور أكثر تعقيداً من السابق في اللحظة اللبنانية الراهنة إقليمياً ودولياً. فالموقع الجغرافي للبلد الصغير أدّى إلى توريط طهران للحزب في الجبهة المفتوحة بين جنوبه وبين شمال إسرائيل. بات أيّ انعكاس لأيّ صفقة أو تسوية أميركية إيرانية على أوضاعه مرتبطاً بما سيؤول إليه مسعى وقف الحرب في غزة. لذلك تقول المقاربة الإيرانية إنّ الموقع الجغرافي للبنان جعل “من غير الممكن فصله عن الحلّ في المنطقة وغزة”.
تراجع شعار “وحدة الساحات” الإيراني وبدا أنّ نموذج هذا التراجع هو العراق، حيث تتجلّى بوضوح أكثر المساومة بين طهران وواشنطن. وتراجع معه مطلب الفصائل العراقية الموالية لطهران بانسحاب القوات الأميركية من البلد، الذي اضطرّ رئيس الحكومة محمد شياع السوداني إلى تبنّيه.
النأي ببغداد عن “وحدة السّاحات”
الضربات الأميركية لفصائل الحشد ردّاً على تحرّشها بالوجود العسكري الأميركي في العراق وسوريا أحرجت الأخير. ما لبث أن أحال، بالاتفاق مع واشنطن، تحديد جدول زمني للانسحاب إلى اجتماعات ثنائية عسكرية كانت ضمناً مخرجاً لتأخير الخطوة. وإذ أعلنت بغداد هذا التأخير، فإنّ واشنطن لن تنسحب في ظلّ الاستنفار غير المسبوق لقوّاتها في المنطقة. والحجّة هي مواصلة محاربة “داعش” الذي يعود قويّاً في بعض المناطق. وواشنطن صنّفت هذا الاستنفار بأنّه لمنع توسّع الحرب، الذي لا تريده طهران أيضاً.
في 1 أيلول الجاري مرّ مرور الكرام كلامُ وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين عن استبعاد بلاد الرافدين من هذا الشعار، بعد استبعاد سوريا. فهو نأى ببغداد عن كلّ أنواع التصعيد العسكري في المنطقة. تردّد حسب معطيات “أساس” أنّ المكوّن الكردي لعب دوراً في هذا التوجّه، وأنّ الزعيم الكردي مسعود برزاني نقل من الأميركيين تنبيهاً صارماً بالابتعاد عن المواجهة العسكرية. وثمّة معلومات بأنّ القيادة التركية مرّرت النصيحة نفسها إلى المسؤولين العراقيين.
للعراق ساحة واحدة
خفّف الوزير فؤاد حسين في حديث لمحطة “سومرية” من وطأة المواجهة بين إيران وإسرائيل بالقول إنّها “توتّر كبير”. استخدم الوزير الكردي الهويّة أوصافاً ناعمة ودبلوماسية بعيدة عن اللهجة الخطابية في توصيفه لخلفيّات السخونة في المنطقة. وردّ “التوتّر” إلى اغتيال رئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية والردّ الإيراني المتوقّع عليه. وأشار إلى “تشابكات وتحدّيات في المنطقة” تقود على جبهة لبنان إلى “ردود من الحزب على إسرائيل”. واعتبر أنّ سياسة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هي استدراج إيران إلى الحرب، وهي تعي ذلك. وقال: “نحن نعمل بكلّ جهدنا لإبعاد شبح الحرب عن الساحة العراقية، وعدم دفع الشعب العراقي إلى أتونها”.
أوضح حسين أنّ موقف حكومته في الحوار مع أطراف الداخل قائم على أنّ “قرار الحرب والسلم في يد الحكومة والبرلمان”. وأكّد أنّ المسألة ليست دستورية فقط، بل تتعلّق بأمن الشعب العراقي ومستقبله. وفي شأن مبدأ وحدة الساحات لفت إلى أنّ “الحكومة العراقية لديها ساحة واحدة هي الساحة العراقية”. واستبعد “دخول العراق الحرب لأنّها تؤدّي إلى دمار العراق… ولن يرضى الفلسطينيون بدمارنا”.
الحاجة إلى الوجود الأميركيّ… وبناء الاقتصاد
ذكّر أنّ بلده دخل حروباً عديدة، إضافة إلى القتال الداخلي، لسنوات عديدة ونتائجها توجب إبعاده وإبعاد المنطقة عن الحرب. كما أنّ حربه مع “داعش” مستمرّة بالتعاون مع التحالف الدولي (بقيادة أميركية). ولفت إلى أنّ “التضامن مع الشعب الفلسطيني لا يعني أن نكون نحن في المقدّمة… العراق يساند القضية الفلسطينية في جوانب مختلفة، والبندقية ليست هي الوسيلة الوحيدة، ونستطيع دعم قضية فلسطين بوسائل مختلفة”.
ركّز أيضاً على مهمّة الحكومة “إعادة بناء الاقتصاد، والأمر غير ممكن وسط وضع أمنيّ غير مستقرّ”.
شدّد على أنّنا “بحاجة إلى الدور الأميركي”، داعياً إلى “نقاش عقلاني حول الوجود الأميركي في العراق… ونحن رجوناهم أن يأتوا ليحاربوا داعش معنا، وكذلك التحالف الدولي، وإيران كجهد عسكري ومستشارين”.
اهتمامات أخرى لفصائل الحشد
يرى المتابعون للمسرح السياسي العراقي الداخلي أنّ بعض قادة الحشد ليسوا مهتمّين كثيراً بإخراج الأميركيين من البلد. فهذا البعض مهتمّ بتحصيل المكاسب المالية وغير المالية من الدولة، وهو ما يتقدّم على أيّ شيء وسط الفساد الحاصل. والبعض الآخر فتح خطوطاً مع الأميركيين في إطار تعايش واشنطن مع النفوذ الإيراني. وأصحاب الرؤوس الحامية من قادة فصائل صغيرة غير فعّالين في اندفاعهم نحو طلب الانسحاب الأميركي.
في كلّ الأحوال فإن المطّلعين على المقاربة الإيرانية حيال العراق يشيرون إلى الآتي:
– سياسة طهران المعلنة الإقلال من الوجود الأميركي في المنطقة لإنهائه، “لكن ماذا نفعل إذا كانت دول في المنطقة تعطيهم وجوداً”؟
– فصل الجبهات “لمصلحة أميركا حتى لا تجرّها إسرائيل إلى الحرب”. وبالتالي لم يأتِ لمصلحة إسرائيل.
– الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله استثنى العراق وسوريا من الردّ على اغتيال هنية وفؤاد شكر، وحصر المهمّة بإيران والحزب والحوثيين (ردّاً على قصف إسرائيل الحديدة ومستودعات الوقود). هذا على الرغم من توجيه الجيش الأميركي ضربة قاسية للحشد الشعبي في جرف الصخر أودت بعشرات القتلى من حزب الله العراقي.
– بعيداً عن المقاربة الإيرانية المعلنة يلفت مراقبون إلى أنّ الوزير حسين تحدّث عن حاجة العراق إلى الاستثمارات الخارجية لبناء الاقتصاد. وهذا يشمل الاستثمارات الغربية والأميركية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه لطالما شكّلت بغداد وسائر المحافظات العراقية متنفّساً للاقتصاد الإيراني المأزوم بفعل العقوبات الأميركية. فواشنطن كانت تمنح بغداد إعفاءات من بعض العقوبات في تعاملها مع طهران.
تفهُّم إيرانيّ في بغداد وتخوين في لبنان
المفارقة في هذا المشهد اختلاف التعاطي من قبل السردية الإيرانية وخطاب الحزب مع العراق، عن التعاطي مع لبنان. فالدعوة في لبنان إلى فصله عن حرب غزة تُواجه بالتخوين إلى درجة دمج نصر الله في خطابه الأخير من يخالفونه الرأي، مع توقّعات المحلّلين حول الحرب، بأنّهم يشاركون في الحرب النفسية ضدّ المقاومة وأنّهم “تافهون لا قيمة لهم”. وفي خطاب سابق وصفهم بـ”السفلة وليسوا من البشر…”. أمّا في العراق فقد اكتفى قائد الحشد الشعبي هادي العامري ببيان يصرّ فيه على جدول زمني للانسحاب الأميركي ردّاً على اتفاق الحكومة مع القيادة الأميركية على تأخّر الانسحاب.
مهما تكن تداعيات المساومات الجارية بين طهران وواشنطن بشأن تداعيات حرب غزة، في زمن الانتخابات الأميركية، فإنّ ما يجري في بغداد يجعلها تتقدّم على لبنان في تلقّف إيجابياتها. وهذا يدعو إلى مراقبة مدى قدرة لبنان على الإفادة من تلك المساومات في شكل يسمح بإنهاء الفراغ الرئاسي.