كتب زياد سامي عيتاني في لبنان الكبير….
“سأطوي صفحة من حياتي وأعتقد أن من بين الـ 30 عاماً أسهم خلالها البنك المركزي على مدى 27 عاماً بسياساته النقدية في إرساء الاستقرار والنمو الاقتصادي”.. بهذه الكلمات، غادر رياض سلامة منصبه كحاكم مصرف لبنان، على الرغم من كل الاتهامات والقضايا القضائية التي كانت تحاصره محلياً وخارجياً، وكأنه كان مطمئناً الى أن الحصانة السياسية التي كان يتمتع بها طوال الولايات المتتالية لحاكميته ستبقى بالزخم نفسه، خصوصاً وأنه يحتفظ في جيبه بـ “فلاش ميموري” تفوق المعلومات التي تحتويه بأهميتها وخطورتها أسرار الدول التي تكون في غاية السرية، لذلك فإن “الصندوق الأسود” الفولاذي الذي بحوزته يجعله يملك الكثير من الملفات التي تدين طبقة سياسية كاملة أوصلت البلاد إلى انهيار مالي تام أتى على مدخرات شعب بأكمله، ولا سيما ملفات الفساد المالي والاداري ونهب الأموال من المافيات السياسية.
مع بدء أزمة شح السيولة وفرض المصارف قيوداً مشددة على سحب الودائع خصوصاً بالدولار في خريف عام 2019، أصرّ سلامة خلال الأشهر الأولى على أن “الليرة بخير”، ولكن على وقع انهيار صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، فقدت العملة المحلية أكثر من 98 في المئة من قيمتها أمام الدولار. وعلى الرغم من أن سلامة شكل منذ ثلاثة أعوام محور تحقيقات محلية وأوروبية تشتبه في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بصورة غير قانونية، وأساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا عن تحويله الأموال إلى حسابات في الخارج و”الإثراء غير المشروع”، فإنه يصر دائماً على أنه جمع ثروته من عمله السابق طوال عقدين في مؤسسة “ميريل لينش” المالية العالمية، ومن استثمارات في مجالات عدة بعيداً من عمله على رأس حاكمية مصرف لبنان. هذا ما جعله يذهب إلى التحقيق بكامل أناقته بنفسه من غير حضور محاميه، ومن دون غطاء سياسي، وكأنه كان مطمئناً إلى أن الأمر سيكون على شاكلة الأمور الأخرى.
كان للتوقيف وقع المفاجأة “المذهلة” ليس عليه وحسب، بل على الأوساط السياسية والقضائية وحتى الشعبية، التي توقفت باهتمام كبير عند قرار مدّعي عام التمييز القاضي جمال الحجّار، بتوقيف سلامة، لعلمها وقتاعتها بأن هذا القرار لا يصدر من دون ضوء أخضر دولي واقليمي خصوصاً وأن رؤساء الطوائف والأحزاب كانوا يضعون خطاً أحمر على اعتقال سلامة. لذلك، فإن ما حدث كان تحولاً دراماتيكياً لرجل كان يُنظر إليه في السابق على أنه رئيس بلاد محتمل، إذ كان دائم الحضور في المؤتمرات المالية الدولية وحصل على كثير من الجوائز في المجال المصرفي وتمتع بصلاحيات واسعة بحكم منصبه، على الرغم من الانتقادات التي طاولت أداءه وشبهات الاختلاس وغسل الأموال والإثراء غير المشروع التي تلاحقه في لبنان والخارج، لكنه بقي في منصبه مستفيداً من حماية سياسية توفرها له قوى رئيسة في البلاد.
توقيف سلامة جاء بناء على القضية المتعلقة بالتحقيق بشأن 111 مليون دولار ناتجة عن صفقة بيع سندات خزينة بين شركة “أوبتيموم إنفيست” المالية ومصرف لبنان ابان حاكمية سلامة للمصرف، وذلك إستناداً الى تدقيق أجرته شركة مالية في حسابات مصرف لبنان، حيث هناك حساب يسمى حساب الاستشارات (من المفترض أن رياض سلامة كان يودع فيه ما ينتج عن عمليات)، وكان سلامة يرفض إعطاء من هي الجهات المستفيدة من هذا الحساب، إلا أن وسيم منصوري حاكم مصرف لبنان بالإنابة الحالي أعطى شركة التدقيق المالي الإذن والمعلومات بشأنها، لذالك قام المدعي العام التمييزي بالإنابة بتوقيف سلامة. واللافت في الموضوع بخصوص استدعاء سلامة وتوقيفه، أن شركة “أوبتيموم إنفست” لم تستدعَ إلى الجلسة في ما يتعلق بتعاملاتها مع حاكم مصرف لبنان السابق الذي جرى توقيفه بعدها لجرائم مالية مرتبطة بالشركة.
بالنسبة الى المسار القضائي، بعد توقيف الحجار رياض سلامة، سيحوّل القضية إلى مدعي عام الاستئناف في بيروت الذي سيحولها بدوره إلى قاضي التحقيق الأول، فإما يصدر مذكرة توقيف وجاهية بحقه أو يفرج عنه بسند إقامة، علماً أن سلامة ممنوع من السفر في قضايا أخرى، أو يقفل الملف. لكن السؤال المركزي الذي يدور حول القرار “المباغت” بتوقيف سلامة، الذي حظي منذ مغادرته مصرف لبنان “بالطبل والزمر” بحماية لافتة من الممسكين بمقدرات السلطة، بحيث لم يقترب منه أي جهاز مخوّل تنفيذ القرارات القضائية بحقه: هل تحرر القضاء اللبناني من سطوة الطبقة السياسية، جعلته يقدم على هذه الخطوة الجريئة، بعدما كان محظوراً عليه ذلك، أم أن القضاء ينفذ “أمر عمليات” سياسي، بعدما رفع الغطاء السياسي عن سلامة؟
توقيف رياض سلامة أعاد فتح ملف مصرف لبنان، وسط غموض كبير بشأن التوقيت والدوافع والأسباب ومن يقف خلف القرار، خصوصاً وأن شكوكاً كبيرة تحوم حول نزاهة المحاكمة، نتيجة انعدام الثقة بالجسم القضائي، الذي هو توأم للمنظومة السياسية التي عينت هيكليته!